فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



اللمسة البيانية: أما لماذا اختار الله تعالى التأنيث في موطن والتذكير في موطن آخر فهو لأن في الآيات خطوط تعبيرية هي التي تحدد تأنيث وتذكير الفعل مع الملائكة. وهذه الخطوط هي:
في القرآن الكريم كله كل فعل أمر يصدر إلى الملائكة يكون بالتذكير {اسجدوا}، {أنبئوني}، {فقعوا له ساجدين}
كل فعل يقع بعد ذكر الملائكة يأتي بالتذكير أيضًا كما في قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} و{الملائكة يشهدون} {الملائكة يسبحون بحمد ربهم}.
كل وصف إسمي للملائكة يأتي بالتذكير {الملائكة المقرّبون} {الملائكة باسطوا أيديهم} {مسوّمين}، {مردفين}، {منزلين}
كل فعل عبادة يأتي بالتذكير {فسجد الملائكة كلهم أجمعين} {لا يعصون الله ما أمرهم} لأن المذكر في العبادة أكمل من عبادة الأنثى ولذلك جاء الرسل كلهم رجالًا.
كل أمر فيه شِدّة وقوة حتى لو كان عذابين أحدهما أشدّ من الآخر فالأشدّ يأتي بالتذكير {ولو ترى إذا يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} {يتوفى} جاءت بالتذكير لأن العذاب أشد {وذوقوا عذاب الحريق} أما في قوله تعالى: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} {تتوفاهم} جاءت بالتأنيث لأن العذاب أخفّ من الآية السابقة. وكذلك في قوله تعالى: {ونزّل الملائكة تنزيلا} بالتذكير وقوله تعالى: {تتنزّل عليهم الملائكة} بالتأنيث وقوله: {تنزل الملائكة والروح فيها من كل أمر} بالتأنيث.
لم تأت بشرى بصيغة التذكير أبدًا في القرآن الكريم فكل بشارة في القرآن الكريم تأتي بصيغة التأنيث كما في قوله تعالى: {فنادته الملائكة} و{قالت الملائكة}.
قال تعالى: {إذا جاءكم المؤمنات} هذه تندرج أيضًا في سياق الكثرة والقلة وفي سياق زيادة الفواصل أيضًا. اهـ.

.تفسير الآيات (98- 99):

قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما توعد على ترك الهجرة، أتبع ذلك بما زاد القاعد عنها تخويفًا بذكر من لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناء تنبيهًا على أنهم جديرون بالتسوية في الحكم لولا فضل الله عليهم، فقال بيانًا لأن المستثنى منهم كاذبون في ادعائهم الاستضعاف: {إلا المستضعفين} أي الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعُدوا ضعفاء وتقوى عليهم غيرهم {من الرجال والنساء والولدان} ثم بين ضعفهم بقوله: {لا يستطيعون حيلة} أي في إيقاع الهجرة {ولا يهتدون سبيلًا} أي إلى ذلك.
ولما كانت الهجرة شديدة، وكان ربما تركها بعض الأقوياء واعتل بالضعف، وربما ظن القادر مع المشقة أنه ليس بقادر؛ نفر من ذلك بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال: {فأولئك} ولما كان الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء، لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، بل له أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ويفعل ويقول ما يشاء {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] أحل هؤلاء المعذورين محل الرجاء إيذانًا بأن ترك الهجرة في غاية الخطر فقال: {عسى الله} أي المرجو والخليق والجدير من الملك المحيط بأوصاف الكمال {أن يعفو عنهم} أي ولو آخذهم لكان له ذلك، وكل ما جاء في القرآن من نحو هذا فهو للإشارة إلى هذا المعنى، وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن عسى من الله واجبة، معناه أنه مع أن له أن يفعل ما يشاء لا يفعل إلا ما يقتضيه الحكمة على ما يستصوبه منهاج العقل السليم {وكان الله} أي الملك الذي له كل شيء فلا اعتراض عليه أزلًا وأبدًا {عفوًا} أي يمحو الذنب إذا أراد فلا يعاقب عليه وقد يعاتب عليه {غفورًا} أي يزيل أثره أصلًا ورأسًا بحيث لا يعاقب عليه ولا يعاتب ولا يكون بحيث يذكر أصلًا، ولعل العفو راجع إلى الرجال، والغفران إلى النساء والولدان. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{إِلاَّ المستضعفين} استثناء منقطع (لأن الموصول وضمائره)، والإشارة إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالمًا لنفسه، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون، وقيل: إنه متصل والمستثنى منه {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء: 97] وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا {مِنَ الرجال} كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد {والنساء} كأم الفضل لبابة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس وغيرها {والولدان} كعبد الله المذكور وغيره رضي الله تعالى عنهم، والجار حال من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار، أو يقال: إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر، وأن المراد بهم المراهقون، أو من قرب عهده بالصغر مجازًا كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان، أو المراد بهم العبيد والإماء.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} أي لا يجدون أسباب الهجرة ومباديها {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل، والجملة صفة لما بعد (من)، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة، أو حال منه، أو من الضمير المستتر فيه، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا. اهـ.

.قال الفخر:

يجوز أن يكون {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} في موضع الحال، والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو كان بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة.
ثم قال: {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق. اهـ.

.قال أبو حيان:

وإنما ذكروا مع الرّجال والنساء وإنْ كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أنَّ عجزهم هو عجز لآبائهم الرّجال والنساء، لأنَّ من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرّجال والنساء مشغولين بأطفالهم، مشغوفين بهم، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم.
فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرّجال والنساء، لأن طرق العجز لا تنحصر، فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرّجال والنساء، فيلحقوا بهم في التكليف انتهى.
وليس بجيد، لأنّ المراهق لا يلحق بالمكلف أصلًا، ولا وعيد عليه ما لم يكلف. اهـ.

.قال الفخر:

فيه سؤال، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفًا به لم يكن عليه في تركه عقوبة، فلم قال: {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} والعفو لا يتصور إلا مع الذنب، وأيضًا {عَسَى} كلمة الإطماع، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم.
والجواب عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادرًا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولاسيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزًا مع أنه لا يكون كذلك، ولاسيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزًا مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام.
وأما السؤال الثاني:
وهو قوله: ما الفائدة في ذكر لفظة {عسى} ههنا؟ فنقول: الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف الحال في غيره.
هذا هو الذي ذكره صاحب الكشاف في الجواب عن هذا السؤال، إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزًا عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة {عَسَى} لا بالكلمة الدالة على القطع. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَأُوْلَئِكَ} أي المستضعفون {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنبًا، ولا يأمن، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وكان الله عفوًا غفورًا} تأكيد في وقع عفوه عن هؤلاء، وتنبيه على أنّ هذا المترجي هو واقع، لأنه تعالى لم يزل متصفًا بالعفو والمغفرة. اهـ.

.قال الفخر:

ذكر الزجاج في {كَانَ} ثلاثة أوجه: الأول: كان قبل أن خلق الخلق موصوفًا بهذه الصفة.
الثاني: أنه قال: {كَانَ} مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقصود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه.
الثالث: لو قال: إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخبارًا عن كونه كذلك فقط، ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخبارًا وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقًا وحقًا ومبرأ عن الخلف والكذب.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل هاهنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه، فلما أخبر بالعفو والمغفرة دلّ على حصول الذنب، ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقًا غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد اتّفق العلماء على أنّ حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأنّ الهجرة كانت واجبةً لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكّن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلمّا صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيّده حديث: «لا هجرة بعد الفتح ولكنْ جِهَادٌ ونيَّة» فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلاّ المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة.
وفي الحديث: «اللهمّ أمْضِ لأصحابي هجرتهم ولا تَرُدُّهْم على أعقابهم» قاله بعدَ أن فتحت مكة.
غير أنّ القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرًا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستّة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يُفتن فيه في إيمانه فيُرغَم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمَه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصرّ، فخرجوا على وجوههم في كلّ واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانِهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016.
الحالة الثانية: أن يكون ببلدِ الكفر غيرَ مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضرّ وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمَّى الإقامةِ ببلد الحرب المفسّرة بأرض العدوّ.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلاّ أنّهم لم يفتِنوا الناسَ في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنّه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أنّ المقام في مثل ذلك مكسروه كراهة شديدة من أجل أنّه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدوّنة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية، كذلك تأوّل قولَ مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحقّ، وتأوّله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال: إنّ مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحجّ وغيره.